ما هي الدّافعيّة؟ وما أهمّ ميّزاتها؟

د. فارس قبلاوي

03.12.2023

آخر تحديث 03.05.2024

يتساءل الكثيرون منّا عن الاسباب الّتي تحفّزنا على القيام بما نقوم به، فلماذا علينا مثلا أن نعمل أو أن درس أو أن نقوم بنشاط رياضيّ أو أن نبذل جهدا في مساعدة الآخرين؟ وما الّذي يدفعنا لكي نقوم بما نقوم به؟ ولماذا لا نبقى مرتاحين طوال الوقت؟ المدخل إلى الإجابة عن هذه الأسئلة وأسئلة شبيهة أخرى، يكمن في دراسة الدّوافع والمحفّزات؛ فالدّافع هو المحرّك أو السّبب الّذي يحفّز الفرد على بذل الجهد والوقت والتّركيز فيما يقوم به، ويوجّهه إلى تحقيق الأهداف الشّخصيّة والمهنيّة؛ فيأخذ الفرد زمام المبادرة، ويجتهد ويواجه التّحدّيات، ويبقى ملتزِمًا بأهدافه. وتشكِّل دراسة الدّافعيّة مجالًا من أهمّ المجالات الّتي تُعنى بها العلوم النّفسيّة والتّربويّة؛ لأنّها تتعلّق بواحد من أهمّ العوامل المؤثِّرة في حياة الفرد؛ فهي ببساطة تتعلّق بالسّؤال الكبير: “لماذا نفعل ما نفعل؟”، وبأسئلة فلسفيّة أساسيّة أخرى تتعلّق بمعنى الحياة والمغزى من أفعالنا وأعمالنا.

تُقسم الدّافعيّة –في العادة- من وجهة نظر الكثيرين من الباحثين والعاملين في مجال علم النّفس والتّربية إلى قسمين: دافعيّة خارجيّة، ودافعيّة داخليّة. يكون مَنشأ الدّافعيّة الخارجيّة خارج الفرد، ومرتبطًا بالحصول على مكافآت خارجيّة أو تجنّب نتائج سلبيّة، مثل العقاب أو الغرامة، وقد ينتج عن ضغوط خارجيّة من آخرين. أمّا الدّافع الذّاتيّ، فينبع من إحساس عميق بالهدف وبصلته بالفرد، ومن تصميم الفرد على تحقيق مبتغاه. ويؤدّي وجود الدّافع الدّاخليّ إلى التزامٍ أكبر بالعمل، ورغبةٍ مستمرّة في التّطوّر والتّقدّم، ولا يعني ذلك أنّ الدّوافع الخارجيّة منفصلة تمامًا عن الدّوافع الدّاخليّة وأنّه لا ترابط بينهما، وأنّها ليست عمليّة أبدًا، أو أنّ وجودها غير مرغوب فيه، كما سنناقش لاحقًا.

يجسّد التّحفيز الذّاتيّ في جوهره قدرة الفرد على إيقاد شعلة الدّافعيّة الدّاخليّة والحفاظ عليها، ممّا يؤدّي غالبًا إلى تخطيط استباقيّ ممنهج، وشعورٍ بالاستقلاليّة، وإحساسٍ بالقدرة اللّازمة على تحمّل الصّعاب وتجاوز العقبات والنّكسات، ويشجّع الفرد على الخروج من مناطق الرّاحة، والالتزام بالسّعي المستمرّ لتحقيق النّموّ الشّخصيّ والإنجاز. يُظهِر الأفراد ذوو الدّوافع الذّاتيّة عقليّةً تخطيطيّةً، وينظرون إلى التّحدّيات على أنّها فرصٌ، ويسعون باستمرار إلى تحقيق تطلّعاتهم مع شعورٍ بالسّيطرة على مجريات الأمور، وشغفٍ مستمرّ ببذل المزيد من الجهد والوقت لتحقيق الأهداف.

عرفنا أنّ الدّافعيّة هي المحركّ لبذل الجهد من أجل تحقيق الأهداف، لكن علينا معرفة أنّ فهم الدّافعيّة يشكّل تحدّيًا كبيرًا في كثير من الأحيان؛ كونها منظومة معقّدة جدًّا لا يمكن فهمها من خلال نظرة سطحيّة أو تبسيطيّة؛ فهي مرتبطة ومتشابكة مع عدد كبير من المفاهيم النّفسيّة والإدراكيّة والشّعوريّة بطرق مختلفة ومعقّدة؛ فتتأثّر الدّافعيّة بالأفكار والمشاعر والسّياقات المختلفة وتؤثّر فيها، وترتبط بمفاهيم نفسيّة كثيرة أخرى، مثل التّوجّهات (attitudes)، الكفاءة الذّاتيّة (self-efficacy)، الثّقة بالنّفس (self-confidence)، التّقييم الذّاتيّ (self-esteem)، نظريّات الأهداف (goal-theories)، ونظريّة التّحقيق الذّاتيّ (self-determination theory). ويمكننا أن نجمل هنا بعضًا من خواصّ الدّافعيّة الّتي علينا الانتباه لها قبل الحديث عن كيفيّة تحفيز أنفسنا (انظر مقالة أخرى حول الموضوع).

دوافع متشابكة:

كما أسلفنا، قد تتشابك الدّوافع المختلفة معا؛ فيمكن للفرد أن يكون مدفوعًا بدوافع خارجيّة وداخليّة في الوقت ذاته، فمثلًا، يمكن للفرد أن يحبّ موضوعًا معيّنًا، مثل الرّياضيّات، ويجد متعة في زيادة معرفته فيه وفي حلّ الأسئلة الرّياضيّة، ولكنّه يكون مدفوعًا أيضًا بدافع خارجيّ، مثل الرّغبة في الحصول على علامة مميّزة أو الوصول إلى مرتبة متقدّمة في مسابقة للرّياضيات. ويمكن للدّوافع الخارجيّة أن تتحوّل إلى داخليّة، ويمكن للأخيرة أن تبدأ داخليّة وتتطوّر لتصبح داخليّة وخارجيّة، ففي الحالة الأولى، يمكن للفرد -مثلًا- أن يبدأ تعليمه مرغمًا بسبب رغبة أهله أو حاجته إلى ممارسة مهنة تدرّ عليه دخلًا مادّيًّا، لكنّه يشعر لاحقًا بمتعةٍ بما يتعلّمه، وتتّقد عنده الدّافعيّة الدّاخليّة أيضًا، ويمكن -من جهة أخرى- أن تتحوّل الحوافز الدّاخلية جزئيًا أو ربّما كلّيًّا إلى دوافع خارجيّة أيضًا، كما هو الحال مثلًا عند تحويل ممارسة هواية ما من أجل المتعة (دافع داخليّ) إلى ممارستها من أجل توفير مصدر دخل مادّيّ إضافيّ. من جهة أخرى، يمكن للفرد أن يكون مدفوعًا بدوافع خارجيّة مرتبطة بأهداف لم يضعها هو (مثل النّجاح في اختبارات التّوجيهيّ) من أجل أن يحقّق هدفًا مرتبطًا بأهدافِ يضعها هو لنفسه (مثل تعلّم موضوع يحبّه في الجامعة). 

دوافع متفاوتة في المجال نفسه:

من المهمّ التّنبيه إلى أنّ دافعيّتنا تجاه موضوع أو مجال معيّن قد تكون مرتبطة بكلّ ما يتعلّق به، أو بجانب من الموضوع أو المجال؛ فيمكن لطالب مثلًا أن يحبّ كلّ ما يتعلّق بدراسة اللّغة الإنجليزيّة، ويكون مدفوعًا إلى تعلّمها وتطوير معرفته بكلّ مهاراتها من كتابة وقراءة وسماع وحديث ومفردات وقواعد، في حين قد يكون طالب آخر محبًّا لتطوير مهارة الحديث بها فقط، ويجد مللًا في تطوير مهارة الكتابة مثلًا، أو عزوفًا عن دراسة قواعدها دراسةً منهجيّة. 

التّأثّر بعوامل مختلفة:

يمكن للدّافعيّة أيضًا أن تتأثّر بعوامل كثيرة داخليّة وخارجيّة، مثل: صفاتنا الشّخصيّة (قدرتنا على التّحمّل، الأمور الّتي تستهوينا، نظرتنا إلى ذاتنا، توقّعاتنا من أنفسنا، ثقتنا بأنفسنا، ومدى انفتاحنا أو انغلاقنا على خوض التّجارب والمجازفة)، أنواع الأهداف الّتي نسعى إلى تحقيقها ومدى صعوبتها وتعقيدها (مثل أهداف داخليّة أو خارجيّة، أهداف شخصيّة أو مهنيّة، أهداف على المدى القصير أو البعيد)، البيئة القريبة والبيئة العامّة وطبيعة الأفراد من حولنا ودرجة تأثيرهم علينا وتوقّعاتهم منّا، إضافة إلى الموارد المتاحة لنا ومدى توفّرها.

تغيّر منسوب الدّافعيّة:

منسوب الدّافعيّة ليس ثابتًا، وقد يزيد وينقص بحسب ما نمرّ به من تجارب وتحديّات، وبحسب ما يجري لنا من تغييرات جسديّة (تقدّم في العمر، مرض، تعب)، أو نفسيّة (اكتئاب، شعور بالعجز، فقدان عزيز)، أو تغييرات في حالتنا الاجتماعيّة (زواج، مجيء أبناء)، وبحسب التّغييرات في البيئة الخاصّة (micor-level) أو العامّة من حولنا (macro-level)؛ فهناك لحظات نشعر فيها بأنّنا مسيطِرون على ما نفعله، وبأنّ دافعيّتنا عالية وطاقاتنا متوقّدة وبلا حدود، فيما نشعر أحيانًا أخرى بالإحباط واليأس، وبنقص الثّقة بقدراتنا وإمكانيّاتنا لتحقيق أهدافنا، وبخذلانِ مَن حولنا لنا، وقد نمرّ بمشاعر من التّوتّر والضّغط أيضًا، وهذه المشاعر كلّها مشروعة، لكن علينا بالطّبع التّعامل مع السّلبيّة منها ومحاولة تغييرها (انظر مقالة أخرى حول التّثبيط أو فقدان الدّافعيّة).

علينا هنا التّفريق بين الدّافعية عند عَدِّها ميزةً ثابتة (motivation as a trait) والدّافعيّة عند عَدِّها حالةً متغيّرة (motivation as a state). تشير الحالة الأولى إلى وجود الدّافعيّة عمومًا، فعندما نقول مثلًا إنّ لدينا دافعيّة كبيرة لأن نحصل على شهادة اللّقب الأوّل في موضوع معيّن، فإنّنا نعني أنّنا نملك هذه الميزة (الدّافعيّة)، وهي ملازمة لنا عمومًا، وهي الّتي تدفعنا للتّسجيل ودفع الأقساط وحضور المساقات وبذل الجهد من أجل النّجاح فيها، لكن في أيّام معيّنة أو لحظات معيّنة أو عقب أحداث أو مواقف أو تجارب معيّنة (مثل عدم الرّضى عن نتيجة مساق أو عن محاضر فيه، أو مواجهة صعوبة في التّعليم لأسباب داخليّة أو خارجيّة)، قد نمرّ بحالة مؤقّتة من فقدان الدّافعيّة، تزول عادة بمجرّد زوال مسبِّبها. إنّ عودة الدّافعيّة بعد فقدها أو نقصانها متعلّق بأمور كثيرة سنتطرق إليها في موقع آخر.

وفي السّياق ذاته، من المهمّ الانتباه إلى إمكانيّة أن يكون لتعاملِنا كأفراد مع التّجارب نفسها أشكالٌ مختلفة من فرد إلى آخر، فمثلًا، قد يحفّز الإخفاق في اختبار ما بعض الأفراد على التّفكير في زيادة الجهد وفي إيجاد طرق جديدة للدّراسة من أجل النّجاح في المحاولات القادمة لإثبات القدرات للنّفس أو للآخرين، في حين قد تؤدّي نتيجة الإخفاق إلى تثبيط الفرد وإحجامه عن ممارسة جهد إضافيّ أو المحاولة مرّة أخرى، وأيضًا إنّ طريقتنا في التّعامل مع النّتيجة أو التّجربة نفسها قد تختلف من زمان إلى آخر بحسب بيئتنا ونفسيّتنا والسّياق الّذي نعيشه.

دائريّة الدّافعيّة:

ومن ميزات الدّافعيّة أيضًا أنّها دائريّة، بمعنى أنّ تحقيق النّجاح في العادة يؤدّي إلى مزيد من الدّافعيّة تجاه العمل على تحقيق أهداف جديدة أخرى سعيًا إلى الوصول إلى نجاحات إضافيّة، وأنّ الإخفاق قد يؤدّي إلى الإحباط والتوقّف عن بذل الجهد والسّعي لتحقيق مزيد من الأهداف.

خاتمة

ناقشنا هنا باختصار بعضا من أهمّ الجوانب المتعلّقة بالدافعيّة وماهيّتها، ورأينا أنّ الدافعيّة تحكم تصرّفاتنا ونشاطاتنا وجهدنا إلى حدّ بعيد، وتؤثّر بأمور كثيرة أخرى وتتأثّر بها، إلى جانب كونها متفاوتة، ومتشابكة ومتغيّرة بحسب السّياقات والظّروف الّتي نمرّ بها، وسنتطرّق في المقالة التّالية إلى أهمّ الاستراتيجيّات التي تساعدنا في إيقاد دافعيّتنا والمحافظة عليها.

أسئلة ونقاط للنّقاش:

تأمّل في دافعيّتك لتعلّم موضوع معيّن أو مساق معيّن أو تطوير إحدى مهاراتك.

  1.  ما هي الأسباب الداخليّة والخارجيّة التي تدفعك إلى تعلّمه؟ أيٌّ منها هو الأقوى برأيك؟
  2. بماذا تتأثّر دافعيّتك؟ وما هي العقبات التي تواجهها؟
Scroll to Top