إنّ أحدَ الأهداف الأساسية لأيّ عملية تعليم، سواء للطلاب الموهوبين أو لغيرهم، تتمثّل في مساعدة الطلاب على الاستقلالية في التعلّم من خلال تطوير مهارات التعلّم الذاتي، وهي قدرة المُتعلّمِ على زيادة معلوماته أو تطوير مهاراته دون الحاجة لمرافقةٍ قريبة ومتواصلة من معلّمين أو مرشدين، هذه المهارة غايَةٌ في الأهمية لأنها تمنح الطالب استقلاليةً في التعلم وإمكانيةً لتعلُّم أيّ موضوع أو مهارة تقريبًا، ودون قيود، سواء خلال فترة التعليم الرسمية أو بعدها. كما أنّها تساعد الطلّاب على استرجاع ما نسوه من معلوماتٍ أو مهارات دون الحاجة لمساعدة الآخرين، وتبدو أهمية ذلك إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنَّ الإنسان ينسى معظم ما يتعلمه خلال فترة وجيزة.
إنّ سعي أيّ مؤسسة إلى تخريج طلّاب مستقلّين في تعليمهم يُعتبر هدفًا أسمى وتحقيقُه يُعتبر نجاحًا باهرًا، وهي من أنفس الهدايا التي يمكن أن يقدّمها أيُّ إطار تعليمي للطالب، إذ لا تقتصر أهمية تنمية قدرات التعليم الذاتي على زيادة المعلومات والمهارات المتعلّقة بالتعليم المدرسي والجامعي، بل تتعدّاه لتعلّم أمور ومهارات حياتية كثيرة، فيمكن للإنسان مثلًا تعلُّم مهارات عمل جديدة، تمكّنه من تغيير أو تطوير عمله مستقبلًا بما يُناسب تغيُّرَ اهتماماته أو ظروفه، وبما يتناسب أيضًا مع التغيّرات السريعة في نوعية الوظائف وطبيعتها. كما يمكن له دراسةُ وبحثُ أمورٍ يحتاج لمعرفتها لدوافعَ واحتياجات شخصية، مثل مقارنة خدماتٍ مقدّمة من مزوّدين مختلفين، والتعرّف على علاجاتٍ مختلفة بحسناتها وسيئاتها، والقائمة من هذا القبيل لا تنتهي تقريبًا.
الأمر المطمئِنُ في مهارة التعلُّم الذاتي هو كونها مهارةٌ مكتسبة؛ ولذا فإنَّ إِمكانية تعليمها وتعلُّمها ممكنةٌ بالفعل، خاصّة بوجود مرشدٍ أو معلِّم واعٍ وقادرٍ على تذويت المهارات الفرعية المتعلّقة بها، ودفع الطلاب باتجاه ممارستها بالشكل الأمثل. ويجب التأكيد على أنّ كَونَ الطّالب موهوبًا لا يعني أنّه قادرٌ على ممارسة التعلُّم الذاتي تلقائيًا وبسرعة، بل يتوجّب في الغالب تعليمه أسُسها والتمرّن عليها لكي يتعرّف عليها ويُتقنها بوقتٍ أسرع. ونُجمل هنا خمسًا من أهم الوسائل التي تساعد في إنشاء طالب مستقلّ يتعلّم ذاتيًا.
(1) تغيير دور المعلّم من مصدر للمعلومات إلى مدرب وقائد
في عملية التعلّم الذاتي، ينصبّ دور المعلم (أو الأهل) على توجيه الطالب وإرشاده ومساعدته على اتخاذ القرارات التي تناسب قدراتَه، وضعَه واهتماماته. ولا يكون المعلّم مصدرًا للمعلومات، بل يوجّه الطالب إلى مصادرها وطرق الحصول عليها، ممّا ينمّي لديه مهارة انتقاء المعلومات المناسبة، تقييمها، انتقادها واستخدامها بالشكل المناسب والمفيد له.
(1) رفع دافعية الطلاب
لقد تحدّثنا عن أهمية رفع الدافعية في مكان آخر، ونؤكّد عليها هنا من زاوية أخرى، وللتذكير فبدون وجود دافعيّة للطلاب فلن يكون عندهم حافزٌ لممارسة أيّ نوع من التعلّم، وتبرز أهميّة الدافعية هنا من كونها ربما الأداة الأهمّ في تنمية مهارة التعلّم الذاتي؛ لأنّ طبيعة هذا التعلّم تتطلّب الكثير من التركيز، الوقت، الجهد والمداومة، والتي لا يمكن أن تتطور دون حافزٍ عالٍ. إضافة إلى أنّ الدافعيّة الكبيرة تساعد المتعلّم على تخطي التحديّات التي تواجهه، خاصّة في ظلِّ المساعدة المحدودة أو المعدومة التي قد تُتاح له، لكن يجب التأكيد أوّلًا أنّ المتعلّم قد يحتاج في الغالب إلى مساعدة وثيقة ولبرنامج إرشادي منظم كي يتمكّن من تطوير مهارة التعلّم الذاتي، كما يحتاج لكثير من التحفيز حتى يكون متمكّنًا منها.
هناك طرقٌ كثيرة يمكن اتّباعها من أجل رفع دافعيّة الطلّاب، وتتنوّع هذه الطرق بحسب بيئة الطلاب وجيلهم وميولهم، لكنْ يمكن الإشارة إلى بعض أهمّ هذه الوسائل والتي تشمل: تهيئة بيئة تعليمية آمنة وداعمة، عرض مواد وفحوى قريبة من الطالب ومثيرة لاهتمامه، وإشراك الطالب في القرارات المتعلقة بعملية تعليمه.
عند تعلُّم موضوعٍ يهمّ الطالب كثيرًا ويشغله ويشكّل له هدفًا أساسيًّا في الحياة فإنّ الطالب قد يطوّر دافعيّة كبيرة لتعلّمه تصل حدّ الشغف والمثابرة (GRIT)، بحيث يستنفذ تعلّمه منه جهدًا ووقتًا وتفكيرًا كبيرًا، وقد يصل به الأمر إلى الانصراف عن مواضيعَ أخرى بالكامل وتكريس جُلّ حياته من أجل تعلّمه، وينطبق هذا الأمر على تعلّم مهارات أخرى، ونضرب على ذلك مثالًا، فقد ينشغل طالب ما في سن معيّنة بتعلّم أساسيّات البرمجة ويستهويه الأمر كثيرًا، بحيث يصبح تفكيرُه وجهدُه ووقتُه مصبوبًا في هذا الجانب، ويدفعه ذلك لمشاهدة فيديوهات وقراءة مواد متعلّقة والتدرّب على البرمجة في كل وقت يُتاح له. وهذا كلّه يصبّ في إتقان الموضوع أو المهارة في وقت قياسي وبشكل عميق، مع ضرورة التحذير من عدم وصول الشغف إلى درجة الهوس، بحيث يُهمل الطالب مواضيعَ أو جوانبَ حياتيّة أخرى تكون حيويّة للنجاح أو لممارسة حياةٍ معقولة ومتوازنة.
(2) تنمية الوعي بالقدرات الذاتية
لكلّ متعلّم توجد جوانب قويّة وأخرى أقلّ قوّة، وقد لا يكون واعيًا لها، فيجب توجيه الطلّاب والتعرّف بمعيّتهم على المهارات المتطورة لديهم وعلى تلك التي يتوجّب عليهم تطويرها، من خلال النّقاش والتجربة، والتعلّم من الأخطاء. إنّ تطوير الذات والقدرات الذاتيّة التي يتوجب التنبُّه لها متنوعة وعديدة، وتشمل القدرات الذاتيّة مجموعةً كبيرة من القدرات الجسدية (مثل تحمّل الجهد المطلوب للعمل)، والنفسية (مثل معرفة الميول والاهتمامات، تحمّل الضغط، رفع الدافعية الذاتية، الثقة بالنفس، التقييم الذاتي العالي) والاجتماعية (مثل: التواصل مع الآخرين، قيادة الآخرين، حل المشاكل، الحديث أمام جمهور).
إنّ الوعي بالقدرات الذاتيّة يساعد المتعلّم على وضع أَهداف عمليّة لعمليّة التعلم، على تخطيطها، تنظيمها وتطويرها للأفضل. فمثلًا، لا يمكن لطالب تنقصه مهارة القراءة السريعة مثلًا، أن يتوقّع من نفسه قراءة كتابٍ أو قصة كل يوم، وعليه أولًا أن يطوّر مهارة القراءة السريعة ومن ثم يضع أهدافًا للقراءة تناسب مدى تطور المهارة لديه.
(3) مساعدة الطلاب على وضع أهداف محدّدة لعملية التعلّم
عند معرفة الطالب بقدراته وإمكانيّاته فسيكون بمقدوره – بمساعدة معلّمه أو مرشده عند الحاجة – وضع أهداف محدّدة لتعليمه، ويتوجب الحذر هنا في اختيار وتحديد الأهداف، بحيث لا تكون مستحيلةَ التحقيق أو سهلةَ التحقيق زيادة عن اللازم، ففي الحالة الأولى قد يُصاب المتعلّمُ باليأس وفي الحالة الثانية قد يفقد الدافعية للتعلّم لأنّ الأَهداف السهلة لا تُشكّل تحدّيًا كافيًا لبذل الجهد والعمل. يجب أن تكون الأهداف قابلة للقياس – لمعرفة مدى نجاح تحقيقها، محدّدة من حيث إطار العمل ومدّته– لتساعد المتعلّم على تركيز الجهد والتقيّد بالوقت، قابلة للتنفيذ – لتكون عملية، فيها تحدٍّ معقول – لتكون محفّزة، وذات صلة بالمتعلّم – لكي يشعر بأنه يحقق شيئًا مهمًّا له. مثال لهدف عملي ومحدد يمكن أن يكون: “هذا الأسبوع سأتعلّم كيفيةّ حل معادلة بمجهول واحد وأقوم بحل 30 مسألة حولها”، أو “في هذا الفصل سأنهي حلَّ ثلاثة فصول في كتاب اللّغة الإنجليزية وسأجهّزُ مع مجموعتي مسرحيةً قصيرةً باللغة الإنجليزية”
(4) تهيئة المواد الملائمة للطالب والتدرّج في منحه استقلالية
ذكرنا أعلاه، أنّ هناك حاجة لإيجاد بيئةٍ داعمة لتنمية الاستقلالية وعملية التعلم الذاتي، ومن المهم التأكيد على وجوب تهيئة مواد ومصادر وفعاليات تلائم كلّ واحد من الأجيال، وعرض الفحوى أو التدريبات بما يلائم مستوى الطالب وقدراته، إذ لا يُتوقَّع، كما ذكرنا، أن يكونَ طالبُ الصف الأول مستقلًا بنفس درجة طالب الصف السادس أو طالب المرحلة الإعدادية أو الثانوية، فمع الجيل تتطور المهارات والقدرات وتزيد درجة الاستقلالية تبعًا لذلك. فمثلًا تكون الشروحات للصفوف الدّنيا أبسط، وربّما بمراحل أكثر، من تلك المُعدّة لطلاب الصفوف العليا، كما أنَّ طريقة العرض تتعلّق بموضوع التعليم وبالفحوى المحدّد الذي يتم تعليمه، فلا يمكن مثلًا أن نتوقّع من طالبٍ في المرحلة الإعدادية أو حتّى الثانوية أن يفهم بمفرده ودون مساعدة، موادّ فلسفية مجرّدة كُتبت من فلاسفةٍ يكون جمهورُ قرّائهم من مثلهم، لكن يمكننا أنْ نتوقّع منه فهم نصٍّ تاريخي عن موضوعٍ لم يسبق له أنْ قرأ عنه، أو فهم رواية أو قصّة بمفرده. إنّ عدم التدرّج وعدم ملاءمة صعوبة المواد وكمّيتها لجيل الطالب وقدراته قد تُحدث أثرًا عكسيًّا، فقد تؤدّي إلى إحباط الطالب أو ملله.
(5) تدريب الطلاب على تنظيم عملية التعلم ذاتيًا (Self Regulated Learning)
الهدف هنا هو أن يقوم الطلاب بتقسيم عملية التعليم أو الدراسة لمراحلَ صغيرة، يقومون بتوزيعها على الأسابيع والأيام بحسب قدراتهم والأوقات المتاحة لهم، لكي يتمكّنوا من تحقيق ما رسموه من أهدافٍ لأنفسهم. كما يشمل ذلك اختيار الأوقات المناسبة لهم للتعلّم، ومعرفة الطرق المختلفة التي توصلهم للأشخاص الذين يمكن أن يرشدوهم أو المصادر التي يمكن أن تساعدهم.
إنّ تنظيم العملية التعليمية يساعد الطالب على التّركيز في عملية التعلّم، وهي مهارة مهمّة من أجل نجاح أيّ عملية تعليمية، فيبدأ ذلك بوضع الأهداف، تحديد وقت الدراسة ومدتها، التعامل مع الملهّيات (distractors) وتحييدها، القدرة على الاعتذار عن ممارسة نشاطات مع الآخرين وقت التعلّم وما شابه.
(6) تدريب الطلاب على التفكُّر في عملية التعلّم وتقييمها
المقصود هنا هو أن يقوم الطلاب بمراقبة وتقييم سير العملية التعليمية الخاصّة بهم، من حيث متابعة تنفيذ الخطط التي وضعوها وتعديلها عند الضرورة، تقييم الأهداف ومعاودة صياغتها عند الحاجة، تقييم الجهد الذي بذلوه وجودته، التعرّف على الأمور التي ساعدتهم على النّجاح وتلك الّتي أعاقت تقدّمهم، مدى التقدّم الّذي حقَّقوه والمهارات المختلفة التي تمكَّنوا من تذويتها والأمور التي يتوجّب عليهم مراجعتها أو التدرّب عليها أكثر، وما شابه من أمور متعلّقة بمتابعة ومراقبة عملية التعلّم، ومن ثم التعلّم من التجارب لتصويب العمل. عمليّة تقييم الطالب لعمله تتطلب تعليمه بعض الأسس والمهارات المتعلّقة بالتقييم وتزويده بها، مثل بناء معايير للنجاح وطريقة استخدام المعايير وتفسير ما تعنيه له وما يمكنه أن يتعلّمه من نتائجها وما يفيده منها في عمله القادم، ومن المهم أن تشملَ طرقَ ومعاييرَ تقييم الجهد، وسيرورة العمل وجودة المنتوج. ومن المهم أيضًا التوضيح للطلاب أنّ عدم النجاح الجزئي أو الكلي في بعض ما نقوم به هو أمرٌ قد يحدث لنا، وعلينا أن نتعلّم منه، فالحياة مليئة بالتحدّيات والنجاحات والفشل، وطريقةُ تعامل الطالب مع الفشل وتحديد أسبابه وعزوه إلى أسبابه الحقيقية، تساعده على تجاوز تداعيات الفشل النفسية والاجتماعية وتضمن إلى حدٍّ بعيد عدم تكرار الأخطاء مستقبلًا.
يمكننا أن نجمل بالقول أنّ عملية التعلم الذاتي حيويةٌ لأيّ طالب، وقد تكون أكثر حيوية للطلاب الموهوبين لأنها تساعدهم على تجاوز الملل الذي يشعرون به من تكرار المواد التي يتعلّمونها في الأطر الرسمية، من سهولتها بالنسبة لهم، أو من بطء العملية التعليمية؛ إذ بإمكانهم الانتقال لتعلّم مواضيعَ ومهارات جديدة تتعدّى ما يُعرض عليهم، وتمنحهم فرصة للاستزادة من المعارف وتطوير المهارات، كما تسهّل عليهم التعامل مع الأسئلة والقضايا الحياتية التي تواجههم، ومعرفة المزيد عن أي أمر يتّجهون لتنفيذه أو خوضه، كما تشكّل رافعة لحياة مليئة وذات معنى ومستقبل أسهل وأفضل.