الطالب الموهوب:

هَل يلزمه إطار خاص؟

أحمد طالب في الصف الثّالث، لا يحب المدرسة لأنّه يشعر بملل كبير في أحيانٍ كثيرة، فمعظم ما يُقدّم إليه لا يَروق له ولا يرقى إلى قدراته، فهو يستطيع فهمه في دقائق، ومن أوّل شرح للمعلّمة وأحيانًا دون أن تَشرحه. أما شرح المعلمة المتكرر للمادة لبقية طلاب الصف، خاصّة من يستصعبونها منهم، فلا يضيف إليه إلا مزيدًا من السّأم والضّجر، وقد يؤدّي به ذلك في بعض الأحيان إلى إثارة المشاكل في الصف، أو الإحجام عن الذهاب إلى المدرسة إلا بضغط من والديه، ومنهم من يشخَّصُ خطأ بأنه يعاني من مشاكل سلوكية ومن نقص الانتباه المفرط (ADHD).

المثال أعلاه ليس نادر الحدوث بل شائعًا جدّا للأسف، وهذا أمر ليس بالغريب على من يعمل في سلك التربية والتعليم، فمعظم الانتباه يذهب إلى الطلاب الذين يواجهون صعوبات في التعلُّم، في حين يتم تجاهل الطلاب الموهوبين بدرجة كبيرة جدا. ولا تتوقف تبعات القصور في تلبية احتياجات الطلاب الموهوبين على شعورهم بالملل والضجر، بل تتعدّاه إلى جوانب أخطر من ذلك بكثير، قد تصل إلى وأد الدافعية عند الطالب الموهوب، بل وفي حالات أخرى، إلى ضمور في قدرات الطالب ومواهبه، لأن القدرات العقلية برأيي هي كعضلات الجسم، إن لم يتم تمرينها فسوف تذوي، كما يؤدي عدم الاستثمار في الطلّاب الموهوبين إلى تأثير سلبي محتمل على قدراتهم ومواهبهم. فهل هناك حاجة –في ظلّ قصور جهاز التربية والتعليم- إلى إقامة إطار خاص بالموهوبين أم إبقائهم ضمن الصفوف والأطر المدرسية العاديّة؟

الإجابة المختصرة

تعدُّ إقامة إطار أو بناء برنامج خاص بالموهوبين منفصل عن منظومة التعليم العادية أمرًا مطلوبًا ومحبّذًا بل وضروريًا؛ لأنّ السياقات والظروف المدرسية بمجملها لا توفّر بيئة مناسبة لتطوير قدرات الموهوبين والاستجابة إلى متطلباتهم الخاصة. وَرَغم أنّ إقامة مثل هذا الإطار لا تعني بالضرورة الفصل التّام للطلاب الموهوبين عن المنظومة المدرسية – حيث يمكن إقامة إطار خاصّ بهم ضمن المدرسة – فإنَ إقامة أُطر خاصّة بهم تبدو الحلَّ الأمثل والأسهل – في الظروف الحالية على الأقل.

 

الإجابة الأشمل

تشعر الغالبية الساحقة من الطلّاب الموهوبين بملل كبير من المدرسة، وبعدم رضا عما تقدّمه إليهم.  ومنبع ذلك أساسا هو أنّ ما يُقدّم في المدرسة لا يوازي قدرات الطالب الموهوب، ولا يستجيب لميوله واهتماماته ولا يطفئ فضوله، أو يشبع شغفه نحو المعارف والمهارات. ولا يُعدّ ذلك تقصيرًا من المدرسة أو المعلمين بالضرورة، بل هو بسبب وضع المدارس التي يلزم فيها تعليم طلاب ذوي مستويات متباينة جدًا في الصف نفسه، فمنهم سريعو البديهة الذين لا يحتاجون إلى كبير جهد من المعلم، ومنهم من لديه عسر تعليمي، ومنهم من هم بين ذلك وذاك. ويظهر مؤخّرا اتجاه نحو دمج طلاب التعليم الخاص في الصفوف العاديّة، مما يضيف تحدّيات أخرى إلى المعلمين بوجه خاص ومنظومة التعليم بوجه عام، دون وجود دعم حقيقي وموارد إضافية، أو توجيه واضح نحو طرق مثلى لدمجهم. ولسنا هنا بصدد المقاربة الشاملة بين التعليم التجانسي (homogeneous)، حيث يتعلم الطلاب من مستويات متشابهَةٍ معًا، وبين التعليم غير المتجانس (heterogeneous)، فكلٌّ له ما له وعليه ما عليه، وستظل الآراء المتباينة تحكم توجهاتنا نحوه.

يؤيّد بعض الباحثين المعروفين، مثل Carol Tomlinson ، التعليم غير المتجانس، وقد كتبوا في ذلك الكثير، موضّحين أنه مناسب لجميع الطلاب وأنه التعليم الأمثل لكيفية تقسيم الطلاب على المجموعات أو الصفوف المختلفة في المدرسة، وأنّ هناك الكثير من المعلمين حول العالم الذين يتبنوّنه ويطبّقونَه بنجاح ملحوظ. وفي الجهة المقابلة، هناك من يشيرون، وبكثير من الصحّة، إلى أن الطلاب الموهوبين يقعون ضحيةً للبيئة التي  يتعلمون فيها والتي تعجز عن تلبية احتياجاتهم، رغم نوايا معلّميهم الصادقة وجهودهم المميزة،  ويدّعونَ أن فكرة التّعليم المتباين، على الرّغم من كونها جَذّابة نظريًّا، فاشلة إلى أبعد حد، وتفضي إلى تعميق الفجوات بين الطلاب في الأطراف –الطلاب المتميّزون من جهة والمستصعبون من جهة أخرى– لأنّ معظم المعلّمين يميلون إلى استهداف شريحة الطّلاب ذوي القدرات المتوسّطة، كونهم يشكلون في العادة معظم طلاب الصف. وعليه، فيكون هناك تجاهل للطلاب المتميزين والمستصعبين على السواء.

 ومن واقع تجربتي الشخصية في التعليم والإدارة، ومن نقاشاتي العديدة مع كثير من المعلّمين في الحقل، ومما تظهره الكثير من الأبحاث التربويّة، أستطيع القول إن تعليم مجموعات غير متجانسة هو أحد أكبر التحدّيات التي يواجهها المعلّمونَ، والّتي تُصعِّب عليهم تلبية احتياجات طلابهم المتباينة بدرجة كبيرة. ورغم وجود آليات واستراتيجيّات مختلفة يمكن للمعلّمين استخدامها في التعليم التفاوتي، فإنّها تظل محدودة برأيي، وقد كانت هذه ولا تزال إحدى العقبات الكؤود الّتي يشكو منها المعلّمون –حتى المميّزين جدّا منهم والمعطائين- ويثيرونها باستمرار في حديثهم مع زملائهم وفي الجلسات المدرسية، خاصّة بوجود عدد كبير نسبيا من الطلاب في الصفوف. ولا يقتصر أثر المشاعر السلبية الناتجة عن ذلك على الطّلاب فحسب، بل يتعداه إلى المعلمين الذين يشعرون بالتقصير أو ربما الفشل مع طلابهم الموهوبين، كما أنهم قد يواجهون ملاحظات سلبية من طلابهم أو تصرفات تنمّ عن مللهم، والتي قد ترقى أحيانا إلى تعكير الجو في الدّروس أو حتى في مجراها.

ما الحلّ إذا؟

ليس ثمة حل سحري لدمج الموهوبين في المدرسة على نحو مثالي، وأعتَقِدُ أَنّ التجربَةُ تُثبتُ صعوبَة الأمر، إن لم تكن استحالته في بعض الظروف. وككل عملية تربوية، فهناك جوانب إيجابية وأخرى سلبيّة لدمج الموهوبين مع بقية الطّلاب أو فصلهم عنهم، لكن المؤَكَّد هو أن معظم الطلّاب الموهوبين والمتفوّقين لا يأخذون حقهم في المدارس الّتي تستصعب، إلا ما ندر منها، بناء برنامج يلبّي رغبات هؤلاء الطلاب واحتياجاتهم. لذلك، ثمة حاجة ماسّة برأيي إلى تطوير برامج متكاملة داخل إطار المدرسة وخارجها لرعاية الطلّاب الموهوبين و تقديم الفرصة إليهم لإظهار قدراتهم وتطويرها. وسنقدم في مدوّنة أخرى عرضا لما يمكن أن يحويه البرنامج الخاص بالموهوبين.

Scroll to Top